فصل: الخبر عن إمارة عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي على الغزاة بالأندلس ومصاير أمره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن إمارة عبد الرحمن بن علي أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي على الغزاة بالأندلس ومصاير أمره:

كان أولاد السلطان أبي علي قد استوقروا بالأندلس وأجازوا إلى طلب الأمر بالمغرب وكان من أمرهم ما شرحناه إلى أن أجاز عبد الرحمن هذا مع وزيره المصادر به مسعود بن رحو بن ماسي سنة ست وستين وسبعمائة من غساسة على سلم عقده لهم وزير المغرب المستبد بأمره يومئذ عمر بن عبد الله ونزل عبد الرحمن هذا بالمنكب وكان السلطان يومئذ معسكرا بها فتلقاه من البر بما يناسبه وأكرم مثواه وأسنى الجراية له ولوزيره ولحاشيته واستقروا في جملة الغزاة المجاهدين حتى إذا هلك علي بن بدر الدين سنة ثمان وستين وسبعمائة نظر السلطان فيمن يوليه أمرهم فعثر اختياره على عبد الرحمن هذا لما عرف به من البسالة والإقدام ولقرب الشرائح بينه وبين ملك المغرب يومئذ التي هي ملاك الترشيح لهذه الخطة بالأندلس كما قدمناه لما كانت رشائح ولد عبد الله بن عبد الحق قد بعدت باتصال الملك في عمود نسب صاحب المغرب دون نسبهم فآثره صاحب الأندلس بها وعقد له على الغزاة المجاهدين سنة ثمان وستين وسبعمائة وأضفي عليه لبوس الكرامة والتجلة وأقعده بمجلس المؤازرة كما كان الأمراء قبله واتصل الخبر بسلطان المغرب يومئذ عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن فغص بمكانه وتوهم أن هذه الإمارة زيادة في ترشيحه ووسيلة لملكه وكانت لوزير الأندلس محمد بن الخطيب مداخلة مع صاحب المغرب بما أمل أن يجعله فيئة لاعتصامه فأوعز إليه بالتحيل على إفساد ما بينه وبين صاحب الأندلس فجهد في ذلك جهده ونسب عليه وعلى وزيره مسعود بن ماسي إلى عظماء القبيل وبعض البطانة من أهل الدولة التحسب والدعوة إلى الخروج على صاحب المغرب فأحضرهم السلطان ابن الأحمر وأعطاهم كتابهم فشهد عليهم وأمر بهم فاعتقلوا في المطبق سنة سبعين وسبعمائة واسترضى صاحب المغرب بفعلته فيهم ونزع الوزير ابن الخطيب بعد ذلك إلى السلطان عبد العزيز وتبين للسلطان مكره واحتياله عليه في شأنهم ولما هلك عبد العزيز وأظلم الجو بين صاحب الأندلس وبين القائم بالدولة أبي بكر بن غازي كما قدمناه وامتعض ابن الأحمر للمسلمين من الفوضى أطلق عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماسي من الاعتقال وجهز لهما الأسطول فأجازوا فيه إلى المغرب ونزلوا بمرسى غساسة على بطوية داعيا لنفسه فقاموا بأمره وكان من شأنه مع الوزير أبي بكر بن غازي ما قصصناه واستقر آخرا بمراكش وتقاسم ممالك المغرب وأعماله مع السلطان أبي العباس أحمد ابن أبي سالم صاحب المغرب لهذا العهد وصار التخم بينهما وادي ملوية ووقف كل واحد منهما عند حده وأغفل صاحب الأندلس هذه الخطة من دولته ومحا رسمها من ملكه وصار أمر الغزاة المجاهدين إليه وباشر أحوالهم بنفسه وعمهم بنظره وخص القرابة المرشحين منهم بمزيد تكرمته وعنايته والأمر على ذلك لهذا العهد وهو سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة والله مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء لا رب غيره ولا معبود سواه.
تم كتاب أخبار الدول الإسلامية بالمغرب لولى الدين أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضري الإشبيلي المالكي.
والحمد لله رب العالمين.

.القسم الأول من التعريف بابن خلدون مؤلف هذا الكتاب:

أصل هذا البيت من إشبيلية انتقل عند الجلاء وغلب ملك الجلالقة ابن أدفونش عيها إلى تونس في أواسط المائة السابعة.
(نسبه) عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خلدون هذا لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هذه العشرة ويغلب على الظن أنهم أكثر وأنه سقط مثلهم عددا لأن خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس فإن كان أول الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة فيكونون زهاء العشرين ثلاثة لكل مائة كما تقدم في أول الكتاب الأول ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف وله صحبة قال أبو محمد بن حزم في كتاب الجمهرة: هو وائل بن حجر بن سعد بن مسروق بن وائل ابن النعمان بن ربيعة بن الحرث بن عوف بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن مرة بن حمير بن زيد بن الحضرمي بن عمر بن عبد الله بن عوف بن جردم بن جرسم بن عبد شمس بن زيد بن لؤي بن ثبت بن قدامة بن أعجب بن مالك بن مالك بن لؤي بن قحطان وابنه علقمة بن وائل وعبد الجبار بن علقمة بن وائل.
وذكره أبو عمر بن عبد البر في حرف الواو من الاستيعاب وأنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه وأجلسه عليه وقال: «اللهم بارك في وائل بن حجر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة» وبعث معاوية بن أبي سفيان إلى قومه يعلمهم الإسلام والقرآن فكان له بذلك صحابة مع معاوية ووفد عليه لأول خلافته فأجازه فرد عليه جائزته ولم بقبلها ولما كانت وقعة حجر بن عدي الكندي بالكوفة اجتمع رؤوس أهل اليمن فيهم وائل هذا فكانوا مع زياد بن أبي سفيان عليه حتى أوثقوه وجازا به إلى معاوية فقتله كما هو معروف.
وقال ابن حزم: ويذكر بنو خلدون الإشبيليون من ولده جدهم الداخل من المشرق خالد المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريت بن معد يكرب بن الحرث بن وائل بن حجر قال: ومن عقبه كريت بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد وكانا من أعظم ثوار الأندلس.
قال ابن حزم: وأخوه محمد كان من عقبه أبو العاصي عمرو بن محمد بن خالد بن محمد بن خلدون وترك أبو العاص محمدا وأحمد وعبد الله قال: وأخوهم عثمان له عقب ومنهم الحكيم المشهور بالأندلس تلميذ مسلمة المجريطي وهو أبو مسلم عمر بن محمد بن تقي بن عبد الله بن أبي بكر بن خالد بن عثمان بن خلدون الداخل وابن عمه أحمد بن محمد بن عبد الله قال: ولم يبق من ولد كريت الرئيس المذكور إلا أبو الفضل بن محمد بن خلف بن أحمد بن عبد الله بن كريت انتهى كلام ابن حزم.
سلفه بالأندلس ولما دخل خلدون بن عثمان جدنا إلى الأندلس نزل بقرمونة في رهط من قومه حضرموت ونشأ بيت بنيه بها ثم انتقل إلى إشبيلية وكانوا في جند اليمن وكان الكريت من عقبه وأخيه خالد الثورة المعروفة بإشبيلية أيام الأمير عبد الله المرواني ثار على أبي عبدة وملكها من يده أعواما ثم ثار عليه عبد الله بن حجاج بإملاء الأمير عبد الله وقتله وذلك في أواخر المائة الثالثة.
وتلخيص الخبر عن ثورته ما نقله ابن سعيد عن الحجازي وابن حيان وغيرهما وينقلونه عن ابن الأشعث مؤرخ إشبيلية أن الأندلس لما اضطرمت بالفتن أيام الأمير عبد الله تطاول رؤساء إشبيلية إلى الثورة والاستبداد وكان رؤساؤها المتطاولون إلى ذلك في ثلاثة بيوت: بيت أبي عبدة وبرئيسهم يومئذ ابن عبد الغافر بن أبي عبيدة وكان عبد الرحمن الداخل ولى إشبيلية وأعمالها أبا عبدة وكان حافده أمية من أعلام الدولة بقرطبة ويولونه الممالك الضخمة وبيت بني خلدون ورئيسهم كريت المذكور ويردفه خالد أخوه.
قال ابن حيان: وبيت بني خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية في النباهة ولم تزل أعلامه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية ثم بيت بني حجاج ورئيسهم يومئذ عبد الله قال ابن حيان: هو من لخم وبيتهم إلى الآن في إشبيلية ثابت الأصل نابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية فلما عظمت الفتنة بالأندلس أعوام الثمانين ومائتين وكان الأمير عبد الله قد ولى على إشبيلية أمية بن عبد الغافر وبعث معه ابنه محمدا وجعله في كفالته فاجتمع هؤلاء النفر وثاروا بمحمد بن الأمير عبد الله وبأمية صاحبهم وهو يمالئهم على ذلك ويكيد بابن الأمير عبد الله وحاصروه حتى طلب منهم اللحاق بأبيه فأخرجوه واستبد أمية بإشبيلية ودس على عبد الله بن حجاج من قتله وأقام أخاه إبراهيم مكانه وضبط إشبيلية واسترهن أولاد بني خلدون وبني حجاج ثم ثاروا به وهم بقتل أبنائهم فراجعوا طاعته وحلفوا له فأطلق أبناءهم فانتقضوا ثانية وحاربوه فاستمات وقتل حرمه وعقر خيوله وأحرق موجوده وقاتلهم حتى قتلوه مقبلا غير مدبر وعاثت العامة في رأسه وكتبوا إلى الأمير عبد الله بأنه خلع فقتلوه فقبل منم مداراة وبعث عليهم هشام بن عبد الرحمن من قرابته فاستبدوا عليه وفتكوا بابنه وتولى كبر ذلك كريت بن خلدون واستقل بإمارتها.
وكان إبراهيم بن حجاج بعدما قتل أخوه عبد الله على ما ذكره ابن سعيد عن الحجازي سمت نفسه إلى التفرد فظاهر ابن حفصون أعظم ثوار الأندلس يومئذ وكان بمالقة وأعمالها إلى رندة فكان له منه ردء ثم انصرف إلى مداراة كريت بن خلدون وملابسته فردفه في أمره وأشركه في سلطانه وكان في كريت تحامل على الرعية وتعصب فكان يتجهم لهم ويغلظ عليهم وابن حجاج يسلك بهم الرفق والتلطف في الشفقة بهم عنده فانحرفوا عن كريت إلى إبراهيم ثم دس إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إشبيلية لتسكن إليه العامة فكتب إليه العهد بذلك وأطلع عليه عرفاء البلد مع ما أشربوا من حبه والنفرة عن كريت ثم أجمع الثورة وهاجت العامة بكريت فقتلوه وبعث برأسه إلى الأمير عبد الله واستقر بإمارة إشبيلية.
قال ابن حيان: وحصن مدينة قرمونة من أعظم معاقل الأندلس وجعلها مرتبطا لخيله وكان يعتقل بينها وبين إشبيلية واتخذ الجند ورتبهم طبقات وكان يصانع الأمير عبد الله بالأموال والهدايا وبعث إليه المدد في الصوائف وكان مقصودا ممدحا قصده أهل البيوتات فوصلهم ومدحه الشعراء ومدحه أبو عمر بن عبد ربه صاحب العقد وقصده من بين سائر الثوار فعرف حقه وأعظم جائزته ولم يزل بين بني خلدون بإشبيلية كما ذكره ابن حيان وابن حزم وغيرهما سائر أيام بني أمية إلى زمان الطوائف وانمحت عنهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة ولما غلب كعب بن عباد على إشبيلية واستبد على أهلها استوزر من بني خلدون هؤلاء واستعملهم في رتب دولته وحضروا معه وقعة الجلالقة كانت لابن عباد وليوسف بن تاشفين على ملوك الجلالقة فاستشهد فيهما طائفة كبيرة من بني خلدون هؤلاء ثبتوا في الجولة مع ابن عباد فاستلحموا في ذلك الموقف بما كان الظهور للمسلمين ونصرهم الله على عدوهم ثم تغلب يوسف بن تاشفين والمرابطون على الأندلس واضمحلت دولة العرب وفنيت قبائلهم سلفه بإفريقية ولما استولى الموحدون على الأندلس وملكوها من يد المرابطين وكان ملوكهم عبد المؤمن وبنيه وكان الشيخ أبو حفص كبير هنتاتة زعيم دولتهم وولوه على إشبيلية وغرب الأندلس مرارا ثم ولوا ابنه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم ثم ابنه أبا زكريا كذلك فكان لسلفنا بإشبيلية اتصال بهم وأهدى بعض أجدادنا من قبل الأمهات ويعرف بالمحتسب للأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص أيام ولايته عليهم جارية من سبي الجلالقة اتخذها أم ولد وكان له منها ابنه أبو زكريا يحيى ولى عهده الهالك في أيامه وأخواه عمر وأبو بكر وكانت تلقب أم الخلفاء ثم انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سنة عشرين وستمائة ودعا لنفسه بها وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين وستمائة واستبد بإفريقية وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس وثار عليهم ابن هود ثم هلك واضطربت الأندلس وتكالب الطاغية عليها وتردد الغزو إلى الفرنتيرة بسيط قرطبة وإشبيلية إلى جيان وثار ابن الأحمر من غرب الأندلس من حصن أرجونة يرجو التماسك بما بقى من رمق الأندلس وفاوض أهل الشورى يومئذ بإشبيلية وهم بنو الباجي وبنو الجد وبنو الوزير وبنو سيد الناس وبنو خلدون وداخلهم في الثورة على ابن هود وأن يتجافوا للطاغية عن الفرنتيرة ويتمسكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوغرة من مالقة إلى غرناطة إلى المرية فلم يوافقوه على بلادهم وكان مقدمهم أبو مروان الباجي فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي وبايع مرة لابن هود ومرة لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن ومرة للأمير أبي زكريا صاحب إفريقية ونزل غرناطة واتخذها دار ملكه وبقيت الفرنتيرة وأمصارها ضاحية من ظل الملك فخشي بنو خلدون سوء العاقبة من الطاغية وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة ونزلوا سبتة وأجلب الطاغية على تلك الثغور فلك قرطبة وإشبيلية وقرمونة وجيان وما إليها في مدة عشرين سنة ولما نزل بنو خلدون بسبتة أصهر إليهم العزفي بأبنائه وبناته فاختلط بهم وكان له معهم صهر مذكور وكان جدنا الحسن بن محمد وهو سبط ابن المحتسب قد أجاز فيمن أجاز إليهم فذكروا سوابق سلفه عند الأمير أبي زكريا فقصده وقدم عليه فأكرم قدومه وارتحل إلى المشرق فقضى فرضه ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكريا على بونة فأكرمه واستقر في ظل دولته ومرعى نعمته وفرض له الأرزاق وأقطع الأقطاع وهلك هنالك فدفن ببونة سنة سبع وأربعين وستمائة وولي ابنه المستنصر محمد فأجرى جدنا أبا بكر على ما كان لأبيه ثم ضرب الدهر ضرباته وهلك المستنصر سنه خمس وسبعين وستمائة وولي ابنه يحيى وجاء أخوه الأمير أبو اسحق من الأندلس بعد أن كان فر إليها أمام أخيه المستنصر فخلع يحيى واستقل هو بملك إفريقية ودفع جدنا أبا بكر محمدا كل عمل الأشغال في الدولة على سنن عظماء الدولة الموحدين فيها قبله من الانفراد بولاية العمال وعزلهم وحسبانهم على الجباية فاضطلع بتلك الرتبة ثم عقد السلطان أبو اسحق لابنه محمد وهو جدنا الأقرب على حجابة ولي عهده ابنه أبي فارس أيام أن اقصاه إلى بجاية ثم استعفى جدنا من ذلك فأعفاه ورجع إلى الحضرة ولما غلب الدعي ابن أبي عمارة على ملكهم بتونس اعتقل جدنا أبا بكر محمدا وصادره على الأموال ثم قتله خنقا في محبسه وذهب ابنه محمد جدنا الأقرب مع السلطان أبي اسحق وأبنائه إلى بجاية فتقبض عليه ابنه أبو فارس وخرج مع العساكر هو وإخوته لمدافعة الدعي ابن أبي عمارة وهو يشبه بالفضل بن المخلوع حتى إذا استلحموا بمرما جنة خلص جدنا محمد مع أبي حفص ابن الأمير أبى زكريا من الملحمة ومعها الفازازي وأبو الحسين بن سيد الناس فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص وكان يؤثره عليهم فأما أبو الحسين بن سيد الناس فاستنكف من إيثار الفازازي عليه بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية ولحق بالمولى أبي زكريا الأوسط بتلمسان وكان من شأنه ما ذكرناه وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص وسكن لإيثار الفازازي ولما استولى أبو حفص على الأمور رعى له سابقته وأقطعه ونظمه في جملة القواد ومراتب أهل الحروب واستكفى به في الكثير من أمر ملكه ورشحه لحجابته من بعد الفازازي وهلك فكان من بعده حافد أخيه المستنصر أبو عصيدة واصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدباغ كاتب الفازإزي وجعل محمد بن خلدون رديفا له في حجابته فكان كذلك إلى أن هلك السلطان وجاءت دولة الأمير خالد فأبقاه على حاله من التجلة والكرامة ولم يستعمله ولا عقد له إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني فاصطنعه واستكفى به عندما تنبضت عروق التغلب من العرب ودفعه إلى حماية الجزيرة من لاج إحدى بطون سليم الموطنين بنواحيها فكانت له في ذلك آثار مذكورة ولما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى الشرق وقضى سنة ثمان عشرة وأظهر التوبة والإقلاع وعاود الحج متنقلا سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة ولزم كسر بيته وأبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الاقطاع والجراية ودعاه إلى حجابته مرارا فامتنع أخبرني محمد بن منصور بن مزني قال: لما هلك الحاجب بن محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمزوار سنة سبع وعشرين وسبعمائة استدعى السلطان جدك محمد بن خلدون وأراده على الحجابة وأن يفوض إليه أمره فأبى واستعفى فأعفاه وأمره فيمن يوليه حجابته فأشار عليه بصاحب ثغر بجاية محمد بن أبى الحسين بن سيد الناس لاستحقاقه ذلك بكفايته واضطلاعه ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس وإشبيلية من قبل وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والدين فعمل السلطان على إشارته واستدعى ابن سيد الناس وولاه حجابته وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من تونس يستعمل جدنا محمدا عليها وثوقا بنظره واستنامة إليه إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة ونزع ابنه وهو والدي محمد بن أبي بكر عن طريقة السيف والخدمة إلى طريقة العلم والرباط لما نشأ عليه في حجر أبي عبد الله الرندي الشهير بالفقيه كان كبير تونس لعهده في العلم والفتيا وانتحال طرق الولاية التي ورثها عن أبي حسين وعمه حسن الوليين الشهيرين وكان جدنا رحمه الله قد لازمه من يوم نزوعه عن طريقه وألزمه ابنه وهو والدي رحمه الله فقرأ وتفقه وكان مقدما في صناعة العربية وله بصر بالشعر وفنونه عهدي بأهل البلد يتحاكمون إليه فيه ويعرضون حوكهم عليه وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
(أما نشأتي) فإني ولدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة وربيت في حجر والدي رحمه الله إلى أن أيفعت وقرأت القرآن العظيم على الأستاذ أبي عبد الله محمد بن سعد بن نزال الأنصارى أصله من جالبة الأندلس من أعمال بلنسية أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها وكان إماما في القراءات لا يلحق شأوه وكان من أشهر شيوخه في القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد بن البطوي ومشيخته فيها وأسانيده معروفة وبعد أن استظهرت القرآن العظيم عن حفظي قرأته عليه بالقراآت السبع المشهورة إفرادا وجمعا في إحدى وعشرين ختمة ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى ثم قرأت برواية يعقوب ختمة واحدة جميعا بين الروايتين عنه وعرضت عليه رحمه الله قصيدة الشاطبي اللامية في القراءات والرائية في الرسم وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي عبد الله البطوي وغيره من شيوخه وعرضت عليه كتاب التفسير لأحاديث الموطأ لابن عبد البر حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ مقتصرا على الأحاديث فقط ودرست عليه كتبا جمة مثل كاب التسهيل لابن مالك ومختصر ابن الخطيب في الفقه ولم أكملها بالحفظ وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله محمد العربي الحصايري وكان إماما في النحو وله شرح مستوفى على كتاب التسهيل ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش المزازي ومنهم أبو العباس أحمد بن القصار كان ممتعا في صناعة النحو وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي وهو حي لهذا العهد بتونس.
ومنه إمام العربية والأدب بتونس أبو عبد الله محمد بن بحر لازمت مجلسه وأفدت عليه وكان بحرا زاخرا في علوم اللسان وأشار علي بحفظ الشعر فحفظت كتب الأشعار الستة والحماسة للأعلم شعر حبيب وطائفة من شعر المتنبي ومن أشعار كتاب الأغاني ولازمت أيضا مجلس إمام المحدثين بتونس شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القيسي الواد ياشي صاحب الرحلتين وسمعت عليه كتاب مسلم بن الحجاج إلا في فوتا يسيرا من كتاب الصيد وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوله إلى آخره وبعضا من الأمهات الخمس وناولني كتبا كثيرة في العربية والفقه وأجازني إجازة عامة وأخبرني عن مشايخه المذكورين أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العباس أحمد بن الغماز الخزرجي وأخذت الفقه بتونس من جماعة منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحياني وأبو القاسم محمد القصير وقرأت عليه كتاب التهذيب لأبي سعيد البرادعي مختصر المدونة وكتاب المالكية وتفقهت عليه وكنت في خلال ذلك انتاب مجلس شيخنا الإمام قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام مع أخي عمر رحمة الله عليهما وأفدت منه وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب الموطأ للإمام مالك وكانت له طرق عالية عن أبي محمد بن هرون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس وكلهم سمعت عليه وكتب لي وأجازني ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.
وكان قدم علينا في جملة السلطان أبي الحسن عندما ملك إفريقية سنة ثمان وأربعين جماعة من أهل العلم كان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمل بمكانهم فيه فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب وإمام مذهب مالك أبو عبد الله محمد بن سليمان السطي فكنت انتاب مجلسه وأفددت عليه ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن وصاحب علامته التي توضع أسفل مكتوباته إمام المحدثين أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي لازمته وأخذت عنه سماعا وإجازة الأمهات الست وكتاب الموطأ والسير لابن اسحق وكتاب ابن الصلاح في الحديث وكتبا كثيرة سرت عن حفظي وكانت بضاعته في الحديث وافرة ونحلته في التقييد والحفظ كاملة كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر في الحديث والفقه والعربية والأدب والمعقول وسائر الفنون مضبوطة كلها مقابلة ولا يخلو ديوان منها عن ضبط بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفة حتى الفقه والعربية الغريبة الإسناد إلى مؤلفها في هذه العصور ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي إمام المقرئين بالمغرب قرأت عليه القرآن العظيم بالجمع الكبر بين القراآت السبع من طريق أبي عمر والداني وابن شريح ولم أكملها وسمعت عليه عدة كتب وأجازني بالإجازة العامة.
ومنهم شيخ العلوم العقلية أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الأيلي أصله من تلمسان وبها نشأ وقرأ كتب التعليم وحذق فيها وأظله الحصار الكبير بتلمسان أعوام المائة السابعة فخرج منها وحج ولقي أعلام المشرق يومئذ فلم يأخذ عنهم لأنه كان مختلطا بعارض عرض في عقله ثم رجع من المشرق وأفاق وقرأ المنطق والأصلين على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام وكان قرأ بتونس مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن على تلميذ أبي زيتون الشهير الذكر وجاء إلى تلمسان بعلم كثير من المنقول والمعقول فقرأ الأيلي على أبى موسى منهما كما قلناه ثم خرج من تلمسان هاربا إلى المغرب لأن سلطانها أبا حمو يومئذ من ولد يغمراسن بن زيان كان يكرهه على التصرف في أعماله وضبط الجباية بحسبانه ففر إلى المغرب ولحق بمراكش ولازم العالم الشهير الذكر أبا العباس بن البناء فحصل عنه سائر العلوم العقلية وورث مقامه فيها وأرفع ثم صعد إلى جبل الهسكرة بعد وفاة الشيخ باستدعاء علي بن محمد بن تروميت ليقرأ عليه فأفاده وبعد أعوام استنزله ملك المغرب السلطان أبو سعيد وأسكنه بالبلد الجديد والأبلي معه.
ثم اختصه السلطان أبو الحسن ونظمه في جملة العلماء بمجلسه وهو في خلال ذلك يعلم العلوم العقلية ويبثها بين أهل المغرب حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصاره وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه ولما قدم على تونس في جملة السلطان أبي الحسن لزمته وأخذت عنه العلوم العقلية والمنطق وسائر الفنون الحكمية والتعليمية وكان رحمه الله تعالى يشهد لي بالتبريز في ذلك.
وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف بن رضوان المالقي كان يكتب عن السلطان ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتاب يومئذ وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات وبعضها يضعه السلطان بخطه وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب في براعة خطه وكثرة علمه وحسن سنته وإجادته في فقه الوثائق والبلاغة في الترسيل عن السلطان وحوك الشعر والخطابة على المنابر لأنه كان كثيرا ما يصلي بالسلطان فلما قدم علينا بتونس صحبته واغتبطت به وإن لم أتخذه شيخا لمقاربة السن فقد أفدت منه كما أفدت منهم وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحوي شاعر تونس في قصيدة على روي النون يرغب منه أن يذكره لشيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه للسلطان أبي الحسن في قصيدة على روي الياء وقد تقدم ذ كرها في أخبار السلطان وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي هذه:
عرفت زماني حين أفكرت عرفاني ** وأيقنت أن لا حظ في كف كيوان

وأن لا اختيار في اختيار مقوم ** وأن لا قراع بالقران لأقران

وأن نظام الشكل أكمل نظمه ** لأضعاف قاض في الدليل برجحان

وأن افتقار المرء من فقراته ** ومن ثقله يغني اللبيب بأوزان

إلى آخرها ثم يقول في ذكر العلماء القادمين:
هم القوم كل القوم أما حلومهم ** فأرسخ من طودي ثبير وثهلان

فلا طيش يعلوهم وأما علومهم ** فأعلامها تهديك من غير نيران

ثم يقول في آخرها:
وهامت على عبد المهيمن تونس ** وقد ظفرت منه بوصل وقربان

وما علقت مني الضمائر غيره ** وإن هويت كلا بحب ابن رضوان

وكتب هذا الشاعر صاحبنا الرحوي يذكر عبد المهيمن بذلك:
لهي النفس في اكتساب وسعي ** وهو العمر في انتهاب وفي

وأرى الناس بين ساع لرشد ** يتوخى الهدى وساع لغي

وأرى العلم للبرية زينا ** فتزي منه بأحسن زي

وأرى الفضل قد تجمع كلا ** في ابن عبد المهيمن الحضرمي
ثم يقول في أخرها:
ينبغي القرب من مراقي الأماني ** والترقي للجانب العلوي

فأنلها مرامها مستهلا ** كل دان يسعى وكل قصي

ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان فاتح تسع وأربعين وسبعمائة فشغلوا عن ذلك ولم يظفر هذا الرحوي بطلبته ثم جاء الطاعون الجارف فطوى البساط بما فيه وهلك عبد المهيمن فيمن هلك ودفن بمقبرة سلفنا بتونس لخلة كانت بينه وبين والدي رحمه الله أيام قدومهم علينا فلما كانت وقعة القيروان ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي الحسن فاعتصموا بالقصبة دار الملك حيث كان ولد السلطان وأهله وانتقض عليه ابن تافراكين وخرج من القيروان إلى العرب وهم يحاصرون السلطان وقد اجتمعوا على أبي دبوس وبايعوا له كما مر في أخبار السلطان فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس فحاصر القصبة وامتنعت عليه وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس وقد سمع الهيعة خرج من بيته إلى دارنا فاختفى عند أبي رحمه الله وأقام متخفيا عندنا نحوا من ثلاثة أشهر ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة وركب البحر إلى تونس وفر ابن تافراكين إلى المشرق وخرج عبد المهيمن من الاختفاء وأعاده السلطان إلى ما كان عليه من وظيفة الولاية والكتابة وكان كثيرا ما يخاطب والدي رحمه الله ويشكره على موالاته ومما كتب إليه وحفظته من خطه:
محمد ذو المكارم قد ثناني ** فعال شكره أبدا عناني

جزى الله ابن خلدون حياة ** منعمة وخلدا في الجنان

فكم أولى ووالى من جميل ** وبر بالفعال وباللسان

وراعى الحضرمية في الذي قد ** جنى من وده ورد الحنان

أبا بكر ثناؤك طول دهري ** أردد باللسان وبالجنان

وعن علياك ما امتدت حياتي ** أكافح بالحسام وباللسان

فمنك أفدت خلا لست دهري ** أرى عن حبه أثني عناني

وهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره هم سباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب فأما ابنا الإمام منهم فكانا أخوين من أهل برشك من أعمال تلمسان واسم أكبرهم أبو زيد عبد الرحمن والأصغر أبو موسى عيسى وكان أبوهما إماما ببعض مساجد برشك واتهمه المتغلب يومئذ على البلد زيرم بن حماد بأن عنده وديعة من المال لبعض أعدائه فطالبه بها ولاذ بالامتناع وبيته زيرم لينتزع المال من يده فدافعه وقتل وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في أخر المائة السابعة وأخذا العلم بها عن تلميذ ابن زيتون وتفقها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدكالي وانقلبا إلى المغرب بحظ وافر من العلم وأقاما بالجزائر يبثان العلم بها لامتناع برشك عليهما في أجل زيرم المتغلب عليها والسلطان أبو يعقوب يومئذ صاحب المغرب الأقصى من بني مرين جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور وبث بها جيوشه في نواحها وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها وملك عمر مغراوة بشلف وحصر مليانة بعث إليها الحسن بن أبي الطلاق من بني عسكر وعلي بن محمد ابن الخير من بنى ورتاجن ومعهما لضبط الجباية واستخلاص الأموال الكاتب منديل بن محمد الكناني فارتحل هذان الأخوان من الجزائر وأخذا عليه فحليا بعين منديل الكناني فقربهما واصطفاهما واتخذهما لتعليم ولده محمد فلما هلك يوسف بن يعقوب سلطان المغرب بمكانه من حصار تلمسان سنة خمس وسبعمائة على يد خصي من خصيانه طعنه فأشواه وهلك وأقام بالملك بعده حافده أبو ثابت بعد أمور ذكرناها في أخباره ووقع بينه وبين صاحب تلمسان من بعده يومئذ أبي زيان محمد بن عثمان بن يغمراسن وأخيه أبي حمو العهد المتأكد على الإفراج عن تلمسان ورد أعمالها عليه فوفى لهم بذلك وعاد إلى المغرب وارتحل ابن أبي الطلاق من شلف والكناني من مليانة راجعين إلى المغرب ومروا بتلمسان فأوصى لهما أبو حمو وأثنى عليهما حلة بمقامهما في العلم واغتبط بهما أبو حمو وبنى لهما المدرسة المعروفة بهما بتلمسان وأقاما عنده على مجرى أهل العلم وسننهم وهلك أبو حمو وكانا كذلك مع ابنه أبي تاشفين إلى أن زحف السلطان أبو الحسن المريني إلى تلمسان وملكها عنوة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة وكانت لهما شهرة في أقطار المغرب أسست لهما عقيدة صالحة فاستدعهما لحين دخوله وأدنى مجلسهما وشاد بمكرتهما ورفع جاههما على أهل طبقتهما وصار يجمل بهما مجلسه متى مر بتلمسان ووفدا عليه في الأولى التي نفر فيها أعيان بلادها ثم استنفرهما إلى الغزو وحضرا معه واقعة طريف وعادا إلى بلدهما وتوفي أبو زبد منهما إثر ذلك وبقي أخوه موسى متبوئا ما شاء من ظلال تلك الكرامة.
ولما سار السلطان أبو الحسن إلى أفريقية سنة ثمان وأربعين وسبعمائة كما مر في أخباره استصحب أبا موسى ابن الإمام معه مكرما موقرا عالي المحل قريب المجلس منه فلما استولى على إفريقية سرحه إلى بلده فأقام بها يسيرا وهلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة وبقي أعقابهما بتلمسان دارجين في مالك تلك الكرامة موقوين فيها طبقا على طبق إلى هذا العهد وأما السطي واسمه محمد بن سليمان من قبيلة سطة من بطون أوربة بنواحي فاس فنزل أبوه سلمان مدينة فاس ونشأ محمد فيها وأخذ العلم عن الشيخ أبي الحسن الصغير إمام المالكية بالمغرب والطائر الذكر وقاضي الجماعة بفاس وتفقه وقرأ عليه وكان أحفظ الناس لمذهب مالك وأفقههم فيه وكان السلطان أبو الحسن لعظم همته وبعد شأوه في الفضل يتشوف إلى تزيين مجلسه بالعلماء واختار منهم جماعة لصحابته مجالسته كان منهم هذا الإمام محمد بن سليمان وقدم علينا بتونس في جملته فشهدنا وفور فضله وكان في الفقه من بينهم لا يجارى حفظا وفهما عهدي به رحمه الله تعالى وأخي موسى يقرأ عليه كتاب التبصرة لأبي الحسن اللخمي وهو يصححه عليه من إملائه وحفظه في مجالس عديدة وكان هذا حاله في أكثر ما يعاني في جملة من الكتب وحضر مع السلطان أبي الحسن واقعة القيروان وخلص معه إلى تونس وأقام بها نحوا من سنتين وانتقض المغرب على السلطان واستقل به ابنه أبو عنان ثم ركب السلطان أبو الحسن في أساطيله من تونس آخر سنة خمسين وسبعمائة ومر ببجياية فأدركه الغرق في سواحلها فغرقت أساطيله وغرق أهله وأكثر من كان معه من هؤلاء الفضلاء وغيرهم ورمى به البحر ببعض الجزر هنالك حتى استنقذه منها بعض أساطيله ونجا إلى الجزائر بعد أن تلف موجوده وهلك الكثير من عياله وأصحابه وكان من أمره ما مر في أخباره.